الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم **
وفيه فوائد: فائدة: اعلم: أن الإفادة من أفضل العبادة، فلا بد له من النية، (1/ 246) ليكون ذلك ابتغاء لمرضاة الله تعالى، وإرشاد عباده؛ ولا يريد بذلك زيادة وحرمة، ولا يطلب على إفادته أجرا، اقتداء بصاحب الشرع - عليه الصلاة والسلام -؛ ثم ينبغي له مراعاة أمور، منها: أن يكون مشفقا ناصحا بصاحبه، وأن ينبهه على غاية العلوم، ويزجره عن الأخلاق الردية، ويمنعه أن يتشوق إلى رتبة فوق استحقاقه، وأن يتصدى للاشتغال فوق طاقته، وأن لا يزجر إذا تعلم للرئاسة والمباهاة، إذ ربما يتبنه بالآخرة لحقائق الأمور، بل ينبغي أن يرغب في نوع من العلم، يستفاد به الرئاسة بالأطماع فيها، حتى يستدرجه إلى الحق. اعلم: أن الله سبحانه وتعالى جعل الرئاسة وحسن الذكر حفظا للشرع والعلم، مثل الحب الملقى حول الشبكة، وكالشهوة الداعية إلى التناسل، ولهذا قيل: لولا الرئاسة لبطل العلم؛ وأن يزجر عما يجب الزجر عنه، بالتعريض لا بالتصريح. فائدة: ومنها: أن يبدأ بالأهم للمتعلم في الحال، إما في معاشه، أو في معاده؛ ويعين له ما يليق بطبعه من العلوم؛ ويراعي الترتيب الأحسن، حسبما يقتضيه رتبته على قدر الاستعداد، فمن بلغ رشده في العلم، ينبغي أن يبث إليه حقائق العلوم، وإلا فحفظ العلم وإمساكه عمن لا يكون أهلا له أولى به، فإن بث المعارف إلى غير أهلها مذموم. وفي الحديث: (لا تطرحوا الدُّرَّ في أفواه الكلاب). وكذا ينبغي أن يجتنب إسماع العوام كلمات الصوفية، التي يعجزون عن تطبيقها بالشرع، فإنه يؤدي إلى انحلال قيد الشرع عنهم، فيفتح عليهم باب الإلحاد والزندقة؛ فينبغي أن يُرشد إلى علم العبادات الظاهرة، وإن عرض لهم شبهة يعالج بكلام إقناعي؛ ولا يفتح عليه باب الحقائق، فإن ذلك فساد النظام؛ وإن وجد ذكيا ثابتا على قواعد الشرع، جاز له (1/ 247) أن يفتح عليه باب المعارف، بعد امتحانات متوالية، لئلا يتزلزل عن جادة الشرع. فائدة: اعلم: أنه يجب على الطالب أن لا ينكر مالا يفهم من مقالاتهم الخفية، وأحوالهم الغريبة، إذ كل ميسر لما خلق له. قال الشيخ ابن سينا في (الإشارات): كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان، ما لم يذرك عنه قائم البرهان. انتهى. وإنما الغرض من تدوين تلك المقالات: التذكرة لمن يعرف الأسرار، والتنبيه على من لا يعرفها، بأن لنا علما يجل عن الأذهان فهمه، حتى يرغب في تحصيله، كما في الحديث: (إلا من العلم كهيئة المكنون، لا يعرفها إلا العلماء بالله تعالى، فإذا نطقوا لا ينكره إلا أهل العزة). وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: (حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاءين، أما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر: فلو بثثته لقطع هذا البلعوم). وغرضهم عدم إمكان التعبير عنه، وخوف مقايسة السامعين الأحوال الإلهية بأحوال الممكنات، فيضلوا بسوء الظن في قائلها، فيقابلوه بالإنكار. انتهى. قلت: المراد بالدعاء الآخر أخبار دولة بني أمية - كما صرح به أهل الحديث -، ومن قال بخلافه لم يأت بما يشفي الغليل، فإن شئت الاطلاع على تمام الكلام في ذلك، فارجع إلى القسطلاني، ولا تغتر (1/ 248) بأقوال هؤلاء الذين ليسوا من علم السنة المطهرة في وِرْد ولا صَدْر. فائدة: ومنها: أنه ينبغي أن لا يخالف قوله فعله، إذ لو كذب مقاله بحاله ينفر الناس عنه، وعن الاسترشاد به، وأكثر المقلدين ينظرون إلى حال القائل؛ وأما المحقق الذي لا ينظر إلى القائل فهو نادر، فليكن عنايته بتزكية أعماله أكثر منه بتحسين علمه، إذ لا بد للعالم من: الورع، ليكون علمه أنفع، وفوائده أكثر، وأن يكظم غيظه عند التعليم، وأن لا يخلطه بهزل فيقسو قلبه، ولا يضحك فيه، ولا يلعب، ولا يبالي إذا لم يقبل قوله، ولا بأس بأن يمتحن فهم المتعلم، وأن لا يجادل في العلم، ولا يماري في الحق، فإنه يفتح باب الضلال؛ وأن لا يدخل علما في علم، لا في تعليم ولا في مناظرة، فإن ذلك مشوش، وكثيرا ما غلط جالينوس بهذا السبب؛ وأن يحث الصغار على التعليم - سيما الحفظ -؛ وأن يذكر لهم ما يحتمله فهمهم؛ وإن كان الطلاب مبتدئين لا يلقي عليهم المشكلات، وإن كانوا منتهين لا يتكلم في الواضحات، ولا يجيب متعنتا في سؤاله، ولا ما يلقى عليه من الأغلوطات؛ وأن ينظر في حال الطالب إن كان له زيادة فهم، بحيث يقدر على حل المشكلات، وكشف المعضلات، يهتم بتعليمه أشد الاهتمام، وإلا فيعلمه بقدر ما يعرف الفرائض والسنن، ثم يأمره بالاشتغال بالاكتساب، ونوافل الطاعات، لكن يصبر في امتحان ذهنه مقدار ثلاث سنين؛ وإن سئل عما يشك فيه يقول: لا أدري، فإن (لا أدري): نصف العلم. (1/ 249) قال الفقيه أبو الليث: يراد من العلماء عشرة أشياء: الخشية، والنصيحة، والشفقة، والاحتمال، والصبر، والحلم، والتواضع، والعفة عن أموال الناس، والدوام على النظر في الكتب، وقلة الحجاب، وأن لا ينازع أحدا، ولا يخاصمه. وعليه أن يشتغل بمصالح نفسه، لا بقهر عدوه. قيل: من أراد أن يرغم أنف عدوه، فليحصل العلم. وأن لا يترفه في المطعم والملبس، وأن لا يتجمل في الأثاث والمسكن، بل يؤثر الاقتصاد في جميع الأمور، ويتشبه بالسلف الصالح؛ وكلما ازداد إلى جانب القلة ميله، ازداد قربه من الله - سبحانه وتعالى -، لأن التزين بالمباح، وإن لم يكن حراما، لكن الخوض فيه يوجب الأنس به، حتى يشق تركه، فالحزم اجتناب ذلك، لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها البتة، مع أنها مزرعة الآخرة، ففيها الخير النافع، والسم الناقع. ففي تمييز الأول من الثاني أحوال، منها: معرفة رتبة المال، فنعم المال الصالح منه للصالح إذا جعله خادما لا مخدوما، وهو مطلوب لتقوية البدن بالمطاعم والملابس، والتقوية لكسب العلوم والمعارف، التي هي المقصد الأقصى؛ ومنها: مراعاة جهة الدخل، فمن قدر على كسب الحلال الطيب فليترك المشتبه، وإن لم يقدر يأخذ منه قدر الحاجة، وإن قدر عليه - لكن بالتعب، واستغراق الوقت - فعلى العامل العامي أن يختار التعب، وإن كان من الأهل، فإن كان ما فاته من العلم والحال أكثر من الثواب الحاصل في طلب الحلال، فله أن يختار الحلال الغير الطيب، كمن غص بلقمة يسيغها بالخمر، لكن يخفيه من الجاهل - مهما أمكن - كيلا يحرك سلسلة الضلال؛ ومنها: المقدار المأخوذ منه، وهو قدر (1/ 250) الحاجة في: المسكن، والمطعم، والملبس، والمنكح، إن جاوز من الأدنى لا يجوز التجاوز عن الوسط؛ ومنها: الخرج والإنفاق، فالمحمود منه الصدقة، والإنفاق على العيال، وقد اختلف في أن الأخذ والإنفاق على الوجه المشروع أولى، أم تركه رأسا مع الاتفاق؟ على أن الإقبال على الدنيا بالكلية مذموم، فالمقبلون على الآخرة، والصارفون للدنيا في محله، فهم الأفضلون من التارك بالكلية، ومنهم عامة الأنبياء - عليهم السلام -؛ ومنها: أن تكون نيته صالحة في الأخذ والإنفاق، فينوي بالأخذ أن يستعين به على العبادة، ويأكل ليتقوى به على العبادة. وفيه فوائد أيضا: فائدة: اعلم: أن تكميل النفوس البشرية في قواها النظرية والعملية، إنما يتم بالعلم بحقائق الأشياء، وما هو إليه كالوسيلة، وبه يكون القصد إلى الفضائل، والاجتناب عن الرذائل؛ إذ كان هو الوسيلة إلى السعادة الأبدية؛ ولا شيء أشنع وأقبح من الإنسان مع ما فضله الله - سبحانه وتعالى - به من: النطق، وقبول تعلم الآداب والعلوم، من أن يهمل نفسه، ويعريها من الفضائل. وقد حث الشارع - عليه الصلاة والسلام - على اكتسابه حيث قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم). وقال: (اطلبوا العلم، ولو بالصين). وقيل: (اطلبوه من المهد إلى اللحد). فائدة: اعلم: أن الإنسان مطبوع على التعلم، لأن فكره هو سبب امتيازه عن سائر الحيوانات، ولما كان فكره راغبا بالطبع في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، لزمه الرجوع إلى من سبقه بعلم، فيلقن (1/ 251) ما عنده؛ ثم إن فكره يتوجه إلى واحد من الحقائق، وينظر ما يعرض له لذاته واحدا بعد واحد، ويتمرن عليه، حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقائق ملكة له، فيكون علمه حينئذ بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا، ويتشوق نفوس أهل القرن الناشئ إلى تحصيله، فيفزعون إلى أهله. فائدة: وكل تعليم وتعلم ذهني، إنما يكون بعلم سابق في معلوم، ما من عالم كمن ليس بعالم. وقد يكون بالطبع مستفادا من وقائع الزمان بتردد الأذهان، ويسمى: علما تجريبيا؛ وقد يكون بالبحث وإعمال الفكر، ويسمى: علما قياسيا. والعلم محصور في التصور والتصديق، والتصور: يطلب بالأقوال الشارحة، والتصديق: يكون عن مقدمات في صور القياسات للنتائج، فقد يحصل به اليقين، وقد لا يحصل به الإقناع؛ وقدموا في التعليم ما هو أقرب تناولا، ليكون سلما لغيره. وجرت سنة القدماء في التعليم مشافهة دون كتاب، لئلا يصل العلم إلى غير مستحقه، ولكثرة المشتغلين بها، فلما ضعفت الهمم، أخذوا في تدوين العلوم، وصنفوا ببعضها، فاستعملوا الرمز، واختصروا من الدلالات على الالتزام، فمن عرف مقاصدهم حصل على أغراضهم. فائدة: اعلم: أن جميع المعلومات إنما تعرف بالدلالة عليها بأحد الأمور الثلاثة: الإشارة، والخط، واللفظ؛ فالإشارة: تتوقف على المشاهدة، واللفظ: يتوقف على حضور المخاطب وسماعه، وأما الخط: فلا يتوقف على شيء، فهو أعمها نفعا وأشرفها، وهو خاصة النوع الإنساني. فعلى المتعلم أن يجوده ولو بنوع منه، ولا شك أنه بالخط والقراءة ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل، وامتاز عن سائر الحيوانات، (1/ 252) وضبطت الأموال، وحفظت العلوم والكمال، وانتقلت الأخبار من زمان إلى زمان، فجبلت غرائز القوابل على قبول الكتابة والقراءة. لكن السعي لتحصيل الملكة هو موقوف على: الأخذ، والتعلم، والتمرن، والتدرب. فائدة: اعلم: أن العلم والنظر وجودهما بالقوة في الإنسان؛ فيفيد صاحبها عقلا، لأن النفس الناطقة، وخروجها من القوة إلى الفعل، إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات من المحسوسات أولا، ثم ما يكتسب بالقوة النظرية، إلى أن يصير إدراكا بالفعل، وعقلا محضا، فيكون ذاتا روحانية، ويستكمل حينئذ وجودها. فثبت أن كل نوع من العلوم والنظر يُفيدها عقلا مزيدا، وكذا الملكات الصناعية تفيد عقلا، والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك، فإنها تشتمل على علوم وأنظار، إذ فيها انتقال من صور الحروف الخطية، إلى الكلمات اللفظية، ومنها إلى المعاني، فهو ينتقل من دليل إلى دليل، وتتعود النفس ذلك دائما، فيتحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلول، وهو معنى النظر الفعلي، الذي يكتسب به العلوم المجهولة، فيحصل بذلك زيادة عقل، ومزيد فطنة؛ وهذا هو ثمرة التعلم في الدنيا. فائدة: ثم إن المقصود من: العلم، والتعليم، والتعلم، معرفة الله سبحانه، وهي غاية الغايات، ورأس أنواع السعادات، ويعبر عنها: بعلم اليقين، الذي يخصه الصوفية أولو الكرامات، وهو الكمال المطلوب من العلم الثابت بالأدلة. وإياك أيها المتعلم أن يكون شغلك من العلم أن تجعله صنعة غلبت على قلبك، حتى قضيت نحبك بتكراره عند النزع، كما يحكى أن أبا طاهر الزيادي كان يكرر مسألة ضمان الدرك حالة نزعه. بل ينبغي لك أن تتخذه سبيلا إلى النجاة. (1/ 253) ذكر إحراق الكتب وإعدامها ومن أجل ذلك نقل عن بعض المشايخ: أنهم أحرقوا كتبهم، منهم: العارف بالله - سبحانه وتعالى - أحمد بن أبي الحواري، فإنه كما ذكره أبو نعيم في (الحلية): لما فرغ من التعلم جلس للناس، فخطر بقلبه يوما خاطر من قبل الحق، فحمل كتبه إلى شط الفرات، فجلس يبكي ساعة، ثم قال: نعم الدليل كنت لي على ربي، ولكن لما ظفرت بالمدلول، علمت أن الاشتغال بالدليل محال؛ فغسل كتبه. وذكر ابن الملقن في ترجمته من (طبقات الأولياء) ما نصه: وقد روي نحو هذا عن سفيان الثوري أنه أوصى بدفن كتبه، وكان ندم على أشياء كتبها عن الضعفاء. وقال ابن عساكر في الكنى من (التاريخ): إن أبا عمرو بن العلاء كان أعلم الناس بالقرآن والعربية، وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف، ثم تنسك، وأحرقها. فائدة: ذكرها البقاعي في (حاشيته على شرح الألفية) (1/ 254) للزين العراقي، وهي أنه قال: سألت شيخنا - يعني ابن حجر العسقلاني - عما فعل داود الطائي وأمثاله عن إعدام كتبهم، ما سببه؟ فقال: لم يكونوا يرون أنه يجوز لأحد روايتها، لا بالإجازة، ولا بالوجادة، بل يرون أنه إذا رواها أحد بالوجادة يضعف؛ فرأوا أن مفسدة إتلافها، أخف من مفسدة تضعيف بسببهم. انتهى. أقول: وجوابه بالنظر إلى فن الحديث، لا يقع جوابا عن إعدام ابن أبي الحواري وأمثاله، لأن الأول: بسبب ضعف الإسناد، والثاني: بسبب الزهد والتبتل إلى الله - سبحانه -؛ ولعل الجواب عن إعدامهم: أنه إن أخرجه عن ملكه بالهبة والبيع ونحوه، لا تنحسم مادة العلاقة القلبية بالكلية، ولا يأمن من أن يخطر بباله الرجوع إليه، ويختلج في صدره النظر والمطالعة في وقت ما، وذلك مشغلة بما سوى الله - سبحانه وتعالى -. فائدة: في طريق النظر والتصفية اعلم: أن السعادة الأبدية لا تتم إلا بالعلم والعمل، ولا يعتد بواحد منهما بدون الآخر، وأن كلا منهما ثمرة الآخر، مثلا: إذا تمهر الرجل في العلم لا مندوحة له عن العمل بموجبه، إذ لو قصر فيه، لم يكن في علمه كمال، وإذا باشر الرجل العمل، وجاهد فيه، وارتاض حسبما بينوه من الشرائط، تنصب على قلبه العلوم النظرية بكمالها؛ فهاتان طريقتان، الأولى منهما: طريقة الاستدلال، والثانية: طريقة المشاهدة؛ وقد ينتهي كل من الطريقتين إلى الأخرى، فيكون صاحبه مجمعا للبحرين. فسالك طريق الحق نوعان: أحدهما: يتبدى من طريق العلم إلى العرفان، وهو: يشبه أن يكون طريقة الخليل - عليه الصلاة والسلام -، حيث ابتدأ من الاستدلال. (1/ 255) والثاني: يبتدئ من الغيب، ثم ينكشف له عالم الشهادة، وهو: طريق الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، حيث ابتدأ بشرح الصدر، وكشف له سبحات وجهه - صلى الله عليه وسلم -. مناظرة أهل الطريقين اعلم أن السالكين اختلفوا في تفضيل الطريقين. قال أرباب النظر: الأفضل: طريق النظر، لأن طريق التصفية صعب، والواصل قليل، على أنه قد يفسد المزاج، ويختلط العقل في أثناء المجاهدة. وقال أهل التصفية: العلوم الحاصلة بالنظر لا تصفو عن شوب الوهم، ومخالطة الخيال غالبا؛ ولهذا كثيرا ما يقيسون الغائب على الشاهد فيضلون، وأيضا لا يتخلصون في المناظرة عن اتباع الهوى، بخلاف التصوف، فإنه تصفية للروح، وتطهير للقلب عن الوهم والخيال، فلا يبقي إلا الانتظار للفيض من العلوم الإلهية. وأما صعوبة المسلك وبعده فلا يقدح في صحة العلم، مع أنه يسير على من يسره الله - سبحانه وتعالى - عليه، وأما اختلال المزاج، فإن وقع فيقبل العلاج؛ ومثلوا بطائفتين تنازعتا في المباهاة والافتخار بصنعة النقش والتصوير، حتى أدى الافتخار إلى الاختبار، فعين لكل منهما جدار بينهما حجاب، فتكلف أحدهما في صنعته، واشتغل الآخر بالتصقيل، فلما ارتفع الحجاب ظهر تلألؤ الجدار مع جميع نقوش المقابل، وقالوا: هذه أمثال العلوم النظرية والكشفية، فالأول: يحصل من طريق الحواس بالكد والعناء، والثاني: يحصل من اللوح المحفوظ، والملأ الأعلى. (1/ 256) واعترض عليهم: بأنا لا نسلم مطلق الحصول، لأن كل علم مسائله كثيرة، وحصولها عبارة عن الملكة الراسخة فيه، وهي لا تتم إلا بالتعلم والتدرب؟ - كما سبق -. ولعل المكاشف لا يدعي حصول العلوم النظرية بطريق الكشف، لأنه لا يصدق إلا أن يقول بحصول الغاية، والغرض منها. المحاكمة بين الفريقين وقد يقال: إنه قد سبق أن العلوم مع كثرتها منحصرة فيما يتعلق بالأعيان، وهو العلوم الحقيقية، وتسمى: حكمية، إن جرى الباحث على مقتضى عقله، وشرعية: إن بحث على قانون الإسلام، وفيما يتعلق بالأذهان والعبارة، وهي: العلوم الآلية المعنوية، كالمنطق ونحوه؛ وفيما يتعلق بالعبارة والكتابة، وهي: العلوم الآلية اللفظية أو الخطية، وتسمى: بالعربية؛ ثم إن ما عدا الأول من الأقسام الأربعة لا سبيل إلى تحصيلها، إلا الكسب بالنظر؛ أما الأول: فقد يحصل بالتصفية أيضا. ثم إن الناس، منهم: الشيوخ البالغون إلى عشر الستين: فاللائق بشأنهم طريق التصفية والانتظار، لما منحه الله - سبحانه وتعالى - من المعارف، إذ الوقت لا يساعد في حقهم تقديم طريق النظر. ومنهم: الشبان الأغبياء: فحكمهم حكم الشيوخ. ومنهم: الشبان الأذكياء، المستعدون لفهم الحقائق: فلا يخلو إما أن لا يرشدهم ماهر في العلوم النظرية، فعليهم ما على الشيوخ، وإما أن يساعدهم التقدير في وجود عالم ماهر، مع أنه أعز من الكبريت الأحمر، فعليه تقديم طريقة النظر، ثم الإقبال بشراشره إلى قرع باب الملكوت، ليكون فائزا بنعمة باقية لا تفنى أبدا. وفيه: مطالب
اعلم: أن مباحث العلوم إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية، من بين العلوم الشرعية التي أكثرها مباحث الألفاظ وموادها، وبين العلوم العقلية وهي في الذهن. واللغات: إنما هي ترجمان عما في الضمائر من المعاني، ولا بد في افتتاحها من ألفاظها، بمعرفة دلالتها اللفظية والخطية عليها؛ وإذا كانت الملكة في الدلالة راسخة، بحيث تتبادر المعاني إلى الذهن من الألفاظ، زال الحجاب بين المعاني والفهم، ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة؛ ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها، ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها، صيروا علومهم الشرعية صناعة، بعد أن كانت نقلا، فحدثت فيها الملكات، وتشوقوا إلى علوم الأمم، فنقولها بالترجمة إلى علومهم، وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا، وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب، واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم، دون ما سواه من الألسن (1/ 258) لدروسها، وذهاب العناية بها. وقد ثبت أن اللغة: ملكة في اللسان، والخط: صناعة ملكتها في اليد، فإذا تقدمت اللسان ملكة العجمة، صار مقصرا في اللغة العربية، لأن الملكة إذا تقدمت في صناعة أخرى - إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة - لم تستحكم كما في أصاغر أبناء العجم. وكذا شأن من سبق له أن تعلم الخط الأعجمي قبل العربي؛ ولذلك ترى بعض علماء الأعجام في دروسهم، يعدلون عن نقل المعمَّى من الكتب إلى قراءتها ظاهرا، يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب، وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك. أما العلوم العقلية التي هي: طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو فكر، فهي غير مختصة بملة، بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم، ويستوون في مداركها ومباحثها، وهي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة؛ وتسمى هذه العلوم: علوم الفلسفة والحكمة، وهي مشتملة على أربعة علوم: الأول: علم المنطق وهو: علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة، من الأمور الحاصلة المعلومة. وفائدته: تمييز الخطأ من الصواب، فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها، ليقف على تحقيق الحق في الكائنات بمنتهى فكره. (1/ 259) الثاني: العلم الطبيعي ثم النظر بعد ذلك عندهم: إما: في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها، من: المعدن، والنبات، والحيوان، والأجسام الفلكية، والحركات الطبيعية، والنفس التي تنبعث عنها الحركات، وغير ذلك؛ ويسمى هذا الفن: بالعلم الطبيعي، وهو: الثاني منها. الثالث: العلم الإلهي وإما: أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات، ويسمونه: العلم الإلهي، وهو: الثالث منها. والعلم الرابع: وهو: الناظر في المقادير؛ ويشتمل على: أربعة علوم، وتسمى: التعاليم أولها: علم الهندسة وهو: النظر في المقادير على الإطلاق، إما المنفصلة: من حيث كونها معدودة؛ أو المتصلة: وهي إما ذو بعد واحد، وهو: الخط؛ أو ذو بعدين، وهو: السطح؛ أو ذو أبعاد ثلاثة، وهو: الجسم التعليمي؛ ينظر في هذه المقادير وما يعرض عليها إما من: حيث ذاتها، أو من: حيث نسبة بعضها إلى بعض. وثانيها: علم الأرتماطيقي وهو: معرفة ما يعرض للكم المنفصل، الذي هو: العدد؛ ويؤخذ له من الخواص والعوارض اللاحقة. وثالثها: علم الموسيقى وهو: معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض، وتقديرها بالعدد؛ وثمرته: معرفة تلاحين الغناء. ورابعها: علم الهيئة وهو: تعيين الأشكال للأفلاك، وحصر أوضاعها وتعددها لكل كوكب من السيّارة، والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها، ومن رجوعها، واستقامتها، وإقبالها، وإدبارها. (1/ 260) فهذه: أصول العلوم الفلسفية؛ وهي سبعة: 1- المنطق: وهو المقدم منها، وبعده: التعاليم. 2- فالأرتماطيقي أولا. 3- ثم الهندسة. 4- ثم الهيئة. 5- ثم الموسيقى. 6- ثم الطبيعيات. 7- ثم الإلهيات. ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه. فمن فروع الطبيعيات: الطب. ومن فروع علم العدد: علم الحساب، والفرائض، والمعاملات. ومن فروع الهيئة: الأزياج: وهي قوانين لحسابات حركات الكواكب وتعديلها، للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك. ومن فروع النظر في النجوم: علم الأحكام النجومية. واعلم: أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم، الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام، وهما: فارس، والروم؛ فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم - على ما بلغنا -، لما كان العمران موفورا فيهم، والدولة والسلطان قبل الإسلام وعصره لهم، فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم. وكان للكلدانيين، ومن قبلهم من السريانيين، ومن عاصرهم من القبط، عناية بالسحر والنجامة، وما يتبعها من الطلاسم، وأخذ ذلك عنهم الأمم من: فارس، ويونان، فاختص بها القبط، وطمى (1/ 261) بحرها فيهم، كما وقع في المتلو من خبر هاروت وماروت، وشأن السحرة، وما نقله أهل العلم من شأن البرابي بصعيد مصر. ثم تتابعت الملل بخطر ذلك وتحريمه، فدرست علومه وبطلت، كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع، - والله أعلم بصحتها -، مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها، مانعة من اختبارها. وأما الفرس: فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما، ونطاقها متسعا، لما كانت عليه دولتهم من الضخامة، واتصال الملك. ولقد يقال: إن هذه العلوم، إما وصلت إلى يونان منهم، حين قتل الإسكندر دارا، وغلب على مملكة الكينية، فاستولى على كتبهم وعلومهم مالا يأخذه الحصر. ولما فتحت أرض فارس، ووجدوا فيها كتبا كثيرة، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليستأذنه في شأنها، وتلقينها للمسلمين، فكتب إليه عمر - رضي الله عنه - أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى، فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالا، فقد كفانا الله؛ فطرحوها في الماء، أو في النار، وذهب علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا. وأما الروم: فكانت الدولة منهم ليونان أولا، وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب، وحملها مشاهير من رجالهم، مثل: أساطين الحكمة، وغيرهم؛ واختص فيها المشاؤون - منهم أصحاب الرواق - بطريقة حسنة في التعليم، يقرؤون في رواق يظلهم من الشمس والبرد - على ما زعموا -، واتصل فيها سند تعليمهم - على ما يزعمون - من لدن لقمان الحكيم (1/ 262) في تلميذه بقراط، ثم إلى تلميذه أفلاطون، ثم إلى تلميذه أرسطو، ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسي، وتامسطيوس، وغيرهم. وكان أرسطو معلما للإسكندر ملكهم، الذي غلب الفرس على ملكهم، وانتزع الملك من أيديهم، وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما، وأبعدهم فيها صيتا، وكان يسمى: المعلم الأول، فطار له في العالم ذكر. ولما انقرض أمر اليونان، وصار الأمر للقياصرة، وأخذوا بدين النصرانية، هجروا تلك العلوم، كما تقتضيه الملل والشرائع فيها، وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدة باقية في خزائنهم، ثم ملكوا الشام، وكتب هذه العلوم باقية فيهم، ثم جاء الله بالإسلام، وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له، وابتزُّوا الرومَ مُلْكَهم فيما ابتزُّوه للأمم، وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة من الصنائع، حتى إذا تبحبح السلطان والدولة، وأخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم، وتفننوا في الصنائع والعلوم، تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية، بما سمعوا من الأساقفة والأقسة المعاهدين بعض ذكر منها، وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها، فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم: أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة، فبعث إليه بكتاب أوقليدس، وبعض كتب الطبيعيات؛ فقرأها المسلمون، واطلعوا على ما فيها، وازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها. وجاء (1/ 263) المأمون بعد ذلك، وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله، فانبعث لهذه العلوم حرصا، وأوفد الرسل على ملوك الروم، في استخراج علوم اليونانيين، وانتساخها بالخط العربي، وبعث المترجمين لذلك، فأوعى منه واستوعب، وعكف عليها النظار من أهل الإسلام، وحذقوا في فنونها، وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها، وخالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول، واختصوه بالرد والقبول، لوقوف الشهرة عنده، ودوَّنوا في ذلك الدواوين، وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم؛ وكان من أكابرهم في الملة: أبو نصر الفارابي، وأبو علي بن سينا بالمشرق؛ والقاضي: أبو الوليد بن رشد، والوزير: أبو بكر بن الصائغ بالأندلس؛ إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. واختص هؤلاء بالشهرة والذكر، واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم، وما ينضاف إليها من علوم النجامة، والسحر، والطلسمات؛ ووقفت الشهرة في هذا المنتحل على مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس، وتلميذه؛ ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة، واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها، وقلدوا آراءها؛ والذنب في ذلك لمن ارتكبه - ثم إن المغرب والأندلس، لما ركدت ريح العمران بهما، وتناقصت العلوم بتناقصه، اضمحل ذلك منها إلا قليلا من رسومه، تجدها في تفاريق من الناس، وتحت رقبة من علماء السنة. ويبلغنا عن أهل المشرق: أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة، وخصوصا في عراق العجم، وما بعده فيما وراء النهر، وأنهم على ثبج من العلوم العقلية، لتوفر عمرانهم، واستحكام الحضارة فيهم. ولقد وقفت بمصر على تآليف متعددة لرجل من علماء هراة، من بلاد خراسان، يُشهر: بسعد الدين التفتازاني، منها: في (1/ 264) علم الكلام، وأصول الفقه، والبيان، تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم، وفي أثنائها ما يدل له على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية، وقدما عالية في سائر الفنون العقلية، - كذلك بلغنا لهذه العهد: أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة، وما إليها من العدوة الشمالية، نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة، ومجالس تعليمها متعددة، ودواوينها جامعة متوفرة، وطلبتها متكثرة، - والله أعلم بما هنالك، وهو قلت: ثم انتقضت تلك السنون وأهلها ** فكأنها وكأنهم أحلام ولم يبق اليوم في المشرق ولا في المغرب، بل ولا في الجهات الأربع، وما بها من المدن والأمصار والقرى، من العلم إلا اسمه، ومن الدين إلا رسمه، وأباد الزمان أهله، - {كأن لم يغنوا بالأمس}-، فقد ذهب العلم برمته، وجاء الجهل بأسره، وكان أمر الله قدرا مقدورا. (1/ 265) اعلم: أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة، في تركيب الألفاظ المفردة، للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى: البلاغة. والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولا، وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالا، ومعنى الحال: أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة، أي: صفة راسخة. فالمتكلم من العرب - حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم - يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم، وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة، ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر، إلى أن يصير ذلك ملكة، وصفة راسخة، ويكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن واللغات، من جيل إلى جيل، وتعلمها العجم والأطفال؛ وهذا هو معنى ما تقوله العامة: من أن اللغة للعرب بالطبع، أي: بالملكة الأولى التي أخذت عنهم، ولم يأخذوها عن غيرهم؛ ثم إنه (1/ 266) فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم، وسبب فسادها: أن الناشئ من الجيل، صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى، غير الكيفيات التي كانت للعرب، فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم، ويسمع كيفيات العرب أيضا، فاختلط عليه الأمر، وأخذ من هذه وهذه، فاستحدث ملكة، وكانت ناقصة عن الأولى، وهذا معنى فساد اللسان العربي. ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف، وهذيل، وخزاعة، وبني كنانة، وغطفان، وبني أسد، وبني تميم؛ وأما من بعد عنهم من: ربيعة، ولخم، وجذام، وغسان، وإياد، وقضاعة، وعرب اليمن، المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة، بمخالطة الأعاجم، وعلى نسبة بعدهم من قريش، كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية، - والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق -. (1/ 267) مطلب في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير وذلك أنا نجدها في بيان المقاصد والوفاء، بالدلالة على سنن اللسان المضري، ولم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعيُّن الفاعل من المفعول، فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير، وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد؛ إلا أن البيان والبلاغة في اللسان المضري أكثر وأعرف، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها، ويبقى ما تقتضيه الأحوال، ويسمى: بساط الحال، محتاجا إلى ما يدل عليه. وكل معنى لا بد وأن تكتنفه أحوال تخصه، فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود، لأنها صفاته، وتلك الأحوال في جميع الألسن، أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع، وأما في اللسان العربي، فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات، في تراكيب الألفاظ وتأليفها، من تقديم، أو تأخير، أو حذف، أو حركة إعراب، وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة؛ ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي، بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات، فكان الكلام العربي لذلك أوجز، وأقل ألفاظا وعبارة من جميع الألسن. وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا). واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر، وقد (1/ 268) قال له بعض النحاة: إني أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم: زيد قائم، وإن زيدا قائم، وإن زيدا لقائم، والمعنى واحد؛ فقال له: إن معانيها مختلفة، فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد، والثاني: لمن سمعه فتردد فيه، والثالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره؛ فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال. وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد، ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة، أهل صناعة الإعراب، القاصرة مداركهم عن التحقيق، حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت، وأن اللسان العربي فسد، اعتبارا بما وقع أواخر الكلم من فساد الإعراب، الذي يتدارسون قوانينه، وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم، وألقاها القصور في أفئدتهم، وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب، لم تزل في موضوعاتها الأولى، والتعبير عن المقاصد والتفاوت فيه بتفاوت الإبانة، موجود في كلامهم لهذا العهد، وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر، موجودة في مخاطبتهم، وفهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم، والشاعر المفلق على أساليب لغتهم؛ والذوق الصحيح، والطبع السليم: شاهدان بذلك، ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب، في أواخر الكلم فقط، الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة، ومهيعا معروفا، وهو الإعراب، وهو بعض من أحكام اللسان، وإنما وقعت العناية بلسان مضر، لما فسد بمخالطتهم الأعاجم، حين استولوا على ممالك العراق، والشام، ومصر، والمغرب، وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولا، فانقلب لغة أخرى، وكان القرآن متنزلا به، والحديث النبوي منقولا بلغته، وهما أصلا الدين والملة؛ فخشي تناسيهما، وانغلاق الإفهام عنهما، (1/ 269) بفقدان اللسان الذي تنزلا به، فاحتيج إلى تدوين أحكامه، ووضع مقاييسه، واستنباط قوانينه، وصار علما ذا فصول، وأبواب، ومقدمات، ومسائل، سماه أهله: بعلم النحو وصناعة العربية، فأصبح فنا محفوظا، وعلما مكتوبا، وسلما إلى فهم كتاب الله، وسنة رسوله وافيا، ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد، واستقرينا أحكامه، نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها، بأمور أخرى موجودة فيه، فتكون لها قوانين تخصها، ولعلها تكون في أواخره، على غير المنهاج الأول في لغة مضر. فليست اللغات وملكاتها مجانا، ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة، وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري، وتصاريف كلماته؛ تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا، خلافا لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق: القيل في اللسان الحميري، أنه من القول، وكثير من أشباه هذا، وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير: لغة أخرى، مغايرة للغة مضر، في الكثير من أوضاعها، وتصاريفها، وحركات إعرابها، كما هي لغة العرب لعهدنا، مع لغة مضر، إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة - كما قلناه - حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء، وليس عندنا لهذه العهد ما يحملنا على مثل ذلك، ويدعونا إليه. ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد، حيث كانوا من الأقطار، شأنهم في النطق بالقاف، فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف، عند أهل الأمصار، كما هو مذكور في كتب العربية، أنه من أقصى اللسان، وما فوقه من الحنك الأعلى، وما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف، وإن كان أسفل (1/ 270) من موضع القاف، وما يليه من الحنك الأعلى، كما هي، بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف، وهو موجود للجيل أجمع، حيث كانوا من غرب أو شرق، حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال، ومختصا بهم، لا يشاركهم فيها غيرهم، حتى إن من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل، والدخول فيه، يحاكيهم في النطق بها، وعندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية، والحضري بالنطق بهذه القاف، ويظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها، فإن هذا الجيل الباقين، معظمهم ورؤساؤهم شرقا وغربا، في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، من سُليم بن منصور، ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم، وهم من أعقاب مضر، وسائر الجيل منهم في النطق بهذه القاف أسوة. وهذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل، بل هي متوارثة فيهم متعاقبة، ويظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين، ولعلها لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينها، وقد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت، وزعموا: أن من قرأ في أم الكتاب: اعلم: أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها، بعيدة عن لغة مضر، وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا، وهي عن لغة مضر أبعد، فأما: أنها لغة قائمة بنفسها، فهو ظاهر يشهد له ما فيها، من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا، وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم. فلغة أهل المشرق: مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب، وكذا أهل الأندلس معهما، وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده، والإبانة عما في نفسه، وهذا معنى اللسان واللغة. وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم - كما قلناه - في لغة العرب لهذا العهد، وأما: أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل، فلئن البعد عن اللسان، إنما هو بمخالطة العجمة، فمن خالط العجم أكثر، كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد، لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم - كما قلناه -؛ وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب، ومن الملكة الثانية التي للعجم، فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه، يبعدون عن الملكة الأولى. واعتبر ذلك في أمصار إفريقية، والمغرب، والأندلس، والمشرق؛ أما إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم، بوفور عمرانها بهم؛ ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل، فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي، (1/ 272) الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة. والعجمة فيها أغلب - لما ذكرناه -، فهي عن اللسان الأول أبعد، وكذا المشرق، لما غلب العرب على أممه من فارس والترك، فخالطوهم، وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة، والفلاحين، والسبي، الذين اتخذوهم خولا، ودايات، وأظآرا، ومراضع، ففسدت لغتهم بفساد الملكة، حتى انقلبت لغة أخرى؛ وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة، وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم، أهل لغة أخرى مخصوصة بهم، تخالف لغة مضر، ويخالف أيضا بعضها بعضا - كما نذكره - وكأنها لغة أخرى، لاستحكام ملكتها في أجيالهم - (وربك يخلق ما يشاء ويقدر) -. (1/273) اعلم: أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد، قد ذهبت وفسدت؛ ولغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر، التي نزل بها القرآن، وإنما هي لغة أخرى من امتزاج العجمة بها، - كما قدمناه -، إلا أن اللغات لما كانت ملكات - كما مر -، كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات، ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة، ويروم تحصيلها، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم، الجاري على أساليبهم من القرآن، والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب، في أسجاعهم، وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور، منزلة من نشأ بينهم، ولقن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره، على حسب عبارتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم، وترتيب ألفاظهم، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة، ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع، والتفهم الحسن لمنازع العرب، وأساليبهم في التراكيب، ومراعاة التطبيق بينها، وبين مقتضيات الأحوال، والذوق يشهد بذلك، وهو ينشأ ما بين هذه الملكة، والطبع السليم فيهما، - كما نذكر -؛ وعلى قدر المحفوظ، وكثرة الاستعمال، تكون جودة المقول المصنوع نظما ونثرا؛ ومن حصل على هذه الملكات، فقد حصل على لغة مضر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها؛ وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها، - والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه العميم -. (1/ 274) والسبب في ذلك: أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة، ومقاييسها خاصة؛ فهو: علم بكيفية، لا نفس كيفية، فليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما، ولا يحكمها عملا، مثل أن يقول بصير بالخياطة، غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خِرْتِ الإبرة، ثم يغرزها في لِفْقَي الثوب مجتمعين، ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا، ثم يردها إلى حيث ابتدأت، ويخرجها قدام منفذها الأول، بمطرح ما بين الثقبين الأولين، ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل؛ ويعطي صورة الحبك، والتنبيت، والتفتيح، وسائر أنواع الخياطة وأعمالها؛ وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده، لا يحكم منه شيئا. وكذا: لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب، فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة، وتمسك بطرفه، وآخر قبالتك ممسك بطرفة الآخر، وتتعاقبانه بينكما، وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه، ذاهبة وجائية، إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة؛ وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه. وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها؛ فإن العلم (1/ 275) بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل، وليس هو نفس العمل. ولذلك تجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية، المحيطين علما بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه، أو ذي مودته، أو شكوى ظلامة، أو قصد من قصوده، أخطأ فيها عن الصواب، وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي. وكذا تجد كثيرا ممن يحسن هذه الملكة، ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئا من قوانين صناعة العربية. فمن هذا تعلم: أن تلك الملكة، هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة، وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب، بصيرا بحال هذه الملكة، وهو قليل، واتفاقي، وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه، فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب، وشواهد أشعارهم، وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه، والمحصل له، قد حصل على حظ من كلام العرب، واندرج في محفوظه، في أماكنه، ومفاصل حاجاته، وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة. ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه: من يغفل عن التفطن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة، ولا يحصل عليه ملكة. وأما المخالطون لكتب المتأخرين، العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية، مجردة عن أشعار العرب، وكلامهم، فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة، أو ينتبهون لشأنها؛ فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنه. وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها، أقرب إلى تحصيل هذه الملكة، وتعليمها من سواهم، لقيامهم فيها على شواهد العرب، وأمثالهم، والتفقه في (1/ 276) الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم؛ فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم، فتنقطع النفس لها، وتستعد إلى تحصيلها وقبولها. وأما من سواهم من: أهل المغرب، وإفريقية، وغيرهم، فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثا، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب، إلا إن أعربوا شاهدا، أو رجحوا مذهبا، من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه؛ فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته؛ وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه، وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم؛ فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان، وتلك القوانين: إنما هي وسائل للتعليم، لكنهم أجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علما بحتا، وبعدوا عن ثمرتها. وتعلم مما قررناه في هذا المقام: أن حصول ملكة اللسان العربي، إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم، فينسج هو عليه، ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم، وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد، على نحو كلامهم؛ - والله مقدر الأمور كلها، والله أعلم بالغيب والشهادة -. (1/ 277) مطلب في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان، وتحقيق معناه، وبيان أنه: لا يحصل غالبا للمستعربين من العجم اعلم: أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان، ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان. والبلاغة مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه، بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك؛ فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه، يتحرى الهيئة المفيدة لذلك، على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده؛ فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب، حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه أمر التركيب، حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب؛ وإن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى، مجَّه، ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة؛ فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها، ظهرت كأنها طبيعة وجِبِلَّة لذلك المحل. ولذلك يظن كثير من المغفلين، ممن لم يعرف شأن الملكات، أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا وبلاغة أمر طبيعي، ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع؛ وليس كذلك؛ وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام، تمكنت ورسخت، فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع. وهذه الملكة -كما تقدم - إنما تحصل بممارسة كلام العرب، وتكرره على السمع، والتفطن لخواص تراكيبه، وليست (1/ 278) تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك، التي استنبطها أهل صناعة اللسان، فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها - وقد مر ذلك -. وإذا تقرر ذلك، فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم، وحسن التركيب، الموافق لتراكيب العرب، في لغتهم، ونظم كلامهم؛ ولو رام صاحب هذه الملكة حيداً عن هذه السبيل المعينة، والتراكيب المخصوصة، لما قدر عليه، ولا وافقه عليه لسانه، لأنه لا يعتاده، ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام، حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم، أعرض عنه، ومَجَّه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم، وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك، كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية، فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء؛ وهذا أمر وجداني، حاصل بممارسة كلام العرب، حتى يصير كواحد منهم. ومثاله: لو فرضنا صبيا من صبيانهم، نشأ، وربي في جيلهم، فإنه يتعلم لغتهم، ويحكم شأن الإعراب، والبلاغة فيها، حتى يستولي على غايتها؛ وليس من العلم القانوني في شيء، وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه. وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل، بحفظ كلامهم، وأشعارهم، وخطبهم، والمداومة على ذلك، بحيث تحصل الملكة، ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم، وربي بين أجيالهم؛ والقوانين بمعزل عن هذا؛ واستعير لهذه الملكة - عندما ترسخ وتستقر - اسم: الذوق، الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان، وإنما هو موضوع لإدراك الطعوم، لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان، من حيث النطق بالكلام، كما هو محل لإدراك الطعوم، استعير لها اسمه، وأيضا فهو وجداني اللسان، كما أن الطعوم محسوسة له، فقيل له: ذوق. (1/ 279) وإذا تبين لك ذلك، علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي، الطارئين عليه، المضطرين إلى النطق به، لمخالطة أهله: كالفرس والروم، والترك بالمشرق، وكالبربر بالمغرب، فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق، لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها، لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر، وسبق ملكة أخرى إلى اللسان، وهي لغاتهم، أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب، لما يضطرون إليه من ذلك؛ وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار، وبعدوا عنها - كما تقدم -، وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى، وليست هي ملكة اللسان المطلوبة. ومن عرف تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب، فليس من تحصيل الملكة في شيء، إنما حصل أحكامها - كما عرفت -؛ وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة، والاعتياد، والتكرار لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعه، من أن سيبويه، والفارسي، والزمخشري، وأمثالهم من فرسان الكلام، كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم، فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم، إنما كانوا عجما في نسبهم فقط، أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب، ومن تعلمها منهم، فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا وراء لها، وكأنهم في أول نشأتهم من العرب، الذين نشؤوا في أجيالهم، حتى أدركوا كنه اللغة، وصاروا من أهلها، فهم، وإن كانوا عجما في النسب، فليسوا بأعجام في اللغة والكلام، لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها، واللغة في شبابها، ولم تذهب آثار الملكة منهم، ولا من أهل الأمصار، ثم عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب، حتى استولوا على غايته. واليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار، فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار، ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى، مخالفة لملكة اللسان العربي، ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب، (1/ 280) وأشعارهم، بالمدارسة والحفظ، يستفيد تحصيلها، فقل أن يحصل له - لما قدمناه من: أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة -. وإن فرضنا عجميا في النسب، سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية، وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالمدارسة، فربما يحصل له ذلك، لكنه من الندور، بحيث لا يخفى عليك بما تقرر، وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية، حصول هذا الذوق له بها، وهو غلط، أو مغالطة؛ وإنما حصلت له الملكة أن حصلت في تلك القوانين البيانية، وليست من ملكة العبارة في شيء، - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم -. (1/281) مطلب: في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية، التي تستفاد بالتعليم ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي، كان حصولها له أصعب وأعسر؛ والسبب في ذلك: ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة، بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة، حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى، هي لغة الحضري لهذا العهد. ولهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان، وتعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم، وليس كذلك، وإنما هي بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللسان وكلام العرب. نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك؛ وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة، وأبعد عن لسان مضر، قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية، وحصول ملكتها لتمكن المنافاة. واعتبر ذلك في أهل الأمصار، فأهل إفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة، وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم. ولقد نقل ابن الرقيق أن بعض كُتَّاب القيروان (1/ 282) كتب إلى صاحب له: (يا أخي، ومن لا عدمت فقده، أعلمني أبو سعيد كلاماً: أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج؛ وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا، ليس من هذا حرفا واحدا، وكتابي إليك، وأنا مشتاق إليك - إن شاء الله تعالى -). وهكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبيها بما ذكرنا؛ وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة، نازلة عن الطبقة؛ ولم تزل كذلك لهذا العهد. ولهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء، إلا ابن رشيق، وابن شرف؛ وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها؛ ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور. وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتهم، وامتلائهم من المحفوظات اللغوية، نظما ونثرا؛ وكان فيهم: ابن حيان المؤرخ، إمام أهل الصناعة في هذه الملكة، ورافع الراية لهم فيها؛ وابن (1/ 283) عبد ربه؛ والقسطلي؛ وأمثالهم من شعراء ملوك الطوائف، لما زخرت فيها بحار اللسان والأدب، وتداول ذلك فيهم مئين من السنين؛ حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية، وشغلوا عن تعلم ذلك. وتناقص العمران، فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها، حتى بلغت الحضيض؛ وكان من آخرهم: صالح بن شريف؛ ومالك بن المرحل، من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة؛ وكُتَّاب دولة ابن الأحمر في أولها. وألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة، من إشبيلية إلى سبتة، ومن شرق الأندلس إلى إفريقية. ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا، وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة، لعسر قبول العدوة لها، وصعوبتها عليهم، بعوج ألسنتهم، ورسوخهم في العجمة البربرية - وهي منافية لما قلناه -. ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت، ونجم بها ابن بشرين، وابن جابر، وابن الجياب، وطبقتهم، ثم (1/ 284) إبراهيم الساحلي، الطريحي؛ وطبقته؛ وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم، الهالك لهذا العهد، شهيدا بسعاية أعدائه، وكان له في اللسان ملكة لا تدرك، واتبع أثره تلميذه بعده. وبالجملة: فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر، وتعليمها أيسر وأسهل، بما هم عليه لهذا العهد - كما قدمناه -من معاناة علوم اللسان، ومحافظتهم عليها، وعلى علوم الأدب، وسند تعليمها؛ ولأن أهل اللسان العجمي، الذين تفسد ملكتهم، إنما هم طارئون عليهم، وليست عجمتهم أصلاً للغة أهل الأندلس والبربر في هذه العدوة، وهم أهلها ولسانهم لسانها، إلا في الأمصار فقط، وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية، فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم، بخلاف أهل الأندلس. واعتبر ذلك بحال أهل المشرق، لعهد الدولة الأموية والعباسية، فكان شأنهم شأن أهل الأندلس، في تمام هذه الملكة وإجادتها، لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم ومخالطتهم، إلا في القليل؛ فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم، وكان فحول الشعراء والكتاب أوفر، لتوفر العرب وأبنائهم بالمشرق. وانظر ما اشتمل عليه كتاب (الأغاني) من نظمهم ونثرهم، فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم، (1/ 285) وفيه: لغتهم، وأخبارهم، وأيامهم، وملتهم العربية، وسيرتهم، وآثار خلفائهم وملوكهم، وأشعارهم، وغناؤهم، وسائر مغانيهم له، فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. وبقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين، وربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم، ممن كان في الجاهلية -كما هو المعلوم -، حتى تلاشى أمر العرب، ودرست لغتهم، وفسد كلامهم، وانقضى أمرهم ودولتهم، وصار الأمر للأعاجم، والملك في أيديهم، والتغلب لهم، وذلك في دولة الديلم والسلجوقية؛ وخالطوا أهل الأمصار والحواضر، حتى بعدوا عن اللسان العربي وملكته، وصار متعلمها منهم مقصراً عن تحصيلها؛ وعلى ذلك تجد لسانهم لهذا العهد، في فني المنظوم والمنثور، وإن كانوا مكثرين منه؛ - {والله يخلق ما يشاء ويختار}، والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب سواه)
|